غزة – خاص
في زاوية مظلمة من الألم الفلسطيني المستمر، تجلس أمّ مكلومة لا تفارقها دموع الفقد، تنتظر خبرًا عن أولادها الثلاثة الذين اختفوا وسط دخان الحرب وصدى الانفجارات.
محمد منير غباين، عبد العزيز منير غباين، وعبد الكريم منير غباين، ثلاثة أشقاء من غزة فُقدوا في السابع من أكتوبر 2023، وما زال مصيرهم حتى اللحظة مجهولاً.
العائلة تحمل في طياتها مأساة مركبة، فوالدهم ارتقى شهيدًا في وقت سابق، ليبقى العبء الثقيل على أمّهم وحدها، التي كرّست حياتها لتربية أولادها وخواتهم البنات، قبل أن تسرق الحرب منها ما تبقى من روحها. “أمهم بتبكي دم، مش دموع.. من يوم ما فقدناهم وهي ما بتنام، ما بتاكل، بس بتسأل: وين أولادي؟ وين راحوا؟”، بهذه الكلمات الموجعة عبّر ابن عمهم محمد عن الحال الذي تعيشه العائلة.
الشباب الثلاثة كانوا من الأعمدة الأساسية للعائلة، يملكون أحلامًا بسيطة، ويعيشون رغم الفقر والحصار بروح فلسطينية لا تنكسر. لكن الحرب الأخيرة قلبت الطاولة، فمع أولى ساعات القصف الشرس، انقطعت أخبارهم تمامًا، دون أي دليل أو شهود، وكأن الأرض ابتلعتهم.
محمد، ابن عمهم، ما زال يبحث بكل الطرق، يتنقّل بين مراكز الإسعاف، المشافي، مواقع القصف، وقوائم الشهداء والمفقودين، دون جدوى.
يقول بمرارة: “ما حدا عارف وينهم. لا شفنا أسماءهم بين المصابين، ولا لقيناهم بين الشهداء، صار لنا شهور نعيش على أمل، وأملنا عم يتآكل كل يوم”.
الوضع الإنساني في غزة يعقّد الأمور أكثر. آلاف العائلات تعاني من نفس المصير، وأرقام المفقودين ترتفع يومًا بعد يوم، ومع قلة الإمكانيات، وغياب الجهد الدولي الحقيقي، تتحول كل قصة إلى نداء، وكل نداء إلى صرخة في الفراغ.
أمّهم، التي ما زالت تحتفظ بثيابهم في أماكنها، ترفض أن تصدّق أنهم رحلوا.
تقول: “ما بدي إياهم يرجعوا شهداء، بدي إياهم يرجعوا لعندي.. يمكن محجوزين، يمكن معتقلين، بس مش معقول الأرض تبلعهم وما حدا يعرف وين راحوا”.
الحديث مع العائلة كفيل أن يكسر أقسى القلوب، كل زاوية في بيتهم تشهد على غيابهم، كل ركن يحمل رائحتهم، وضحكتهم، وحكايات لم تكتمل، لم تخلّف الحرب دمارًا ماديًا فقط، بل سرقت أرواحًا، ومزّقت قلوبًا، وتركت أمهات يتنفسن الوجع.
محمد، ابن عمهم، يوجّه رسالة أخيرة عبر هذا التقرير: “نحنا بدنا العالم يسمعنا. هدول مش أرقام، هدول شباب كان إلهم حلم وبيت وعيلة. أمهم مش ناسية وجعها، ومش راح تهدأ إلا لما تعرف مصيرهم”.
في غزة، قد تكون الحياة ممكنة وسط الدمار، لكن العيش بدون إجابة، بدون خبر عن أحبّائك، هو أقسى أنواع الموت. عائلة غباين لا تريد المستحيل، فقط تريد أن تعرف: أين أبناؤها الثلاثة؟