هدى بارود*
يقول الخبر على وسائل الإعلام العربية والعالمية، إن الاحتلال الإسرائيلي سلّم عدداً من جثث شهداء 7 أكتوبر 2023 لوزارة الصحة في غزة، في إطار تبادلٍ للجثث وفق اتفاق إنهاء الحرب الذي وُقعَ بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس في العاشر من أكتوبر 2025، بعد عامين على حرب الإبادة.
ما لم يقله الخبر، هو أن الجثث والتي وصل عددها إلى 255 جثة من أصل 450 متفق على تسليمها لوزارة الصحة بغزة، جاءت مطموسة الملامح. مشوهة بشكلٍ يصعب معه التعرف عليها. ودون إرفاق قائمة بأسماء اصحابها، ودون السماح بإدخال أي معدات فحص DNA إلى القطاع كذلك، فما كان على الأهالي إلا محاولة اكتشاف جثث أبنائهم من ملامح مميزة في أجسادهم المشوهة والمتصلبة، وهي مهمة أصعب ما فيها لا إنسانيتها.
“هل تعرفين كيف ننام بعد أن نُقلب أجساد الشهداء المتحللة بدقةٍ كمن يُقلب في قطعة قماش يبحث فيها عن شيء يعرفه؟ إننا لا ننام”
علِقت بقايا الكثير من الشهداء على يد السيدة فاطمة (اسم مستعار) لكنها لم تحظ حتى الآن بفرصة لِلمس بقايا وجه ابنها.
تقول: “في أول أكتوبر 2023 لمست وجهه لآخر مرة، قبّلَ كف يدي وغادر فجراً محفوفاً بدعواتي له ورفاقه. كنت أعرف أن هناك مهمة عظيمة من وداعاته لي كل ليلة، وعرفت أنه لن يعود عندما ردد كثيرا مقطعا واحدا من أغنية كان يحبها (“وأحمي بلادي بحد الحسام ويعرف قومي أنّي الفتى”)..”.
تلك الأغنية التي كان أول مقطعٍ فيها يقول “فتنت روحي يا شهيد”. تخشى السيدة فاطمة من ترديدها أو سماعها، فهي بعدَ جولةٍ من التفتيش الدقيق بأجساد ضحايا الاحتلال التي كانت ممدة على ألواحٍ خشبية في مجمع ناصر الطبي في خانيونس جنوب قطاع غزة أمامَ حشدٍ من الأهالي، يقول لها قلبها “ربما كان أسيراً”.
“لا أعرف إذا كانت فكرة الأسر أخف وطئة من القتل! بعض وجوه الشهداء كانت كأنها تصرخ، سمعت صوت ابني مرارا يكرر “يمّا” بألمٍ وخوف كلما رأيت وجه جثة مهشمة الفك أو مسحوقة الجمجمة”.
خُفتٍِ عليه من الألم؟ سألتها من على بعدِ أكثر من ٢١٥٠ ميلا، وعبرَ اتصالٍ رديء بالإنترنت، أجابت “خفت عليه من الخوف، ابني الذي لم يبلغ الثلاثين بعد، عاش يتيم الأب، قتل جنود الاحتلال أبوه في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأنا امرأة أخاف الظلمة والوحدة وأخاف من الصوت العالي، وربما ورث ابني بعض خوفي”.
تابعت: “لا تشكي للحظة بأنني لا أراه بطلًا، كان بطلاً.. لكن الأبطال تخاف كذلك.. كل الجثث التي تفحصتها كانت خائفة”.
أسماء الصانع زوجةٌ لرجلٍ غائبٍ منذ اليوم الأول من حرب الإبادة، انقطعت أخباره تماما، فصار مصيره يتأرجح بين احتمالين “شهيداً أو أسيراً”.
تُقلب منذ أيامٍ جثث الشهداء باحثةً عن علامةٍ مميزة تدلها على رفاته، تخاطب زوجها ” هل أكمل البحث عنك وأفقدني كل ليليةٍ، وأجدني قد تحولت إلى جثةٍ بلا روح كالجثث التي أشمها وأقلُبها منذ ثلاث ليالٍ، أم هل أنجو من العذاب وأهرب من القسوة المفرطة التي تغلف هذه التجربة؟”.
تخشى أسماء أن تنهار أمام عشرات الجثث المُعذبة، مجهولة الهوية، انهياراً يقطع طريق بحثها عن وجه زوجها، فيظلُ غائباً للأبد.
“أتحسس أيادي الشهداء، أقدامهم، بطونهم، بناطليهم، وحتى أحذيتهم.. أكرر النظر حتى يغيب عقلي عن الوعي، ثم أعاود البحث من جديد.. ثمة روح تناديني وتبحث عني أيضا”.
المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة الدكتور منير البرش قال إن الأطباء وثقوا علامات مميزة في 54 جثةً أعادها الاحتلال إلى القطاع منذ تاريخ 18 أكتوبر 2025، ودفنت صباح 22 أكتوبر 2025، دونَ أن تحظى بتعريفٍ أو اسم.
تبعتها لاحقاً عدد من الجثث التي وثقت بأدلةٍ مرئية ودفنت دونَ اسم، حتى وصل المجهولين من الشهداء الذين أعادهم الاحتلال 120 جثماناً.
وقال البرش في تصريحٍ تلفزيوني “عادت الجثث من ثلاجات الاحتلال، مبردةً تبريداً شديداً، وعليها آثار تعذيبٍ واضحة، من دهسٍ وسحقٍ وحرق”، وتابع “كانت بعض الجثامين مشرحةً تشريحاً طبيا، وبعضها مكبلة اليدين والقدمين بأربطة وأصفادٍ حديدية، ناهيك عن عُصبِ الأعينِ والحبال المربوطة حول الأعناق”.
عبرَ موقعٍ خصصته وزارة الصحة الفلسطينية لصورِ الجثامين التي أعادها الاحتلال للقطاع ما بعد اتفاق التهدئة، كانت كل جثة تحمل رمزا، ورقماً تحته تتابعُ صور العلامات المميزة في كل واحدةٍ منها. شكل الفك والأسنان، تدويرة الأذن، والأصابع، وتفاصيل الملابس حتى الداخلية منها.
لم أستطع أن أشاهد الصور لدقيقةٍ واحدة، أغلقت الهاتف وفكرت ماذا لو كانت هذه آخر وسيلة أرد فيها لحبيبٍ ما اسمه وصفته وإنسانيته، هل تراني أتابع؟
الآلاف من أهالي المفقودين في غزة اضطروا أن يشاهدوا الشقوق الطولية والعرضية في أجساد الشهداء، تلك الشقوق التي شكك البرش بأنها دليلٌ على سرقة الاحتلال لأعضاء الفلسطينيين قبلَ قتلهم، وحشو أجسادهم بالقطن والقماش.
“هذه ليست المرة الأولى التي يسرق فيها الاحتلال أعضاء من جثامين الفلسطينيين، فلنا معه تاريخ طويل بحكم التجربة، كان يسرق قرنيات العيون والكلى”، قال الدكتور منير البرش في لقاءٍ صحافي مسجل، وقد سبقه في تأكيد ذلك منذ سنوات تحقيق لصحيفة “أفتون بلاديت” السويدية عام 2009، رصدت فيه سرقة أعضاءِ فلسطيني قتله جنود الاحتلال بالرصاص في الضفة الغربية، وأعادوا جسده مشرحاً، ناهيك عن كثيرٍ من التقارير التي تؤكد اتهامات للاحتلال بسرقة جلود وأعضاء الفلسطينيين والتجارة بها.
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في تصريحٍ نشره على موقعه الإلكتروني أكدَّ فيه أن فريقه الميداني رصدَ أدلة ظاهرية دامغة على قتل العديد من الضحايا بعد احتجازهم، حيث وُجدت على أجسادهم آثار شنق وحبال واضحة حول الأعناق، وإصابات ناجمة عن إطلاق نار مباشر من مسافة قريبة جدًا، وأيدٍ وأقدام مربوطة بمرابط بلاستيكية، وعيون معصوبة، فضلًا عن جثامين سُحقت تحت جنازير دبابات، وأخرى تحمل آثار تعذيب جسدي شديد، وكسور، وحروق، وجروح غائرة.
يواصل الاحتلال الإسرائيلي تسليم جثث الضحايا الفلسطينيين بلا أدلةٍ عليهم، يريد من ذلك زيادة عذابات الأهالي والإمعان في إيلامهم، وربما ينتقم بذلك من الفلسطيني بأن يطمسّ هويته حتى لو كان جثةً لا حول لها ولا قوة. أو لعله يريد أن يقول “لا أريد لأحدٍ أن يتذكر بطولة الفلسطيني، هو فقط جثةٌ لا يعرفها أحد”.





