خان يونس – خاص
في زاوية منسية من مدينة خان يونس، وتحديدًا في حي جورت اللوت، بدأت قصة محمود أمان الجبور، لكنها لم تنتهِ بعد.
الرجل الذي بلغ من العمر 45 عامًا، انقطعت أخباره في لحظة اجتياح، لتتحول حياته – وحياة عائلته – إلى لغز موجع عنوانه: أين محمود؟
كان ذلك في الأيام الأولى من اجتياح خان يونس في ديسمبر 2023، حين اشتد القصف وتكثف القتال داخل المدينة، خاصة في منطقة “البلد”، اختفى محمود عن الأنظار.
انقطع الاتصال به تمامًا، ولم تعد تصل أي معلومة تؤكد نجاته أو ترشد إلى مصيره، ومنذ ذلك اليوم، تعيش عائلته حالة انتظار قاتل، بين أمل خافت ونكبة متجددة.
محمود لم يكن مجرد رب أسرة، بل كان عمود بيت بأكمله، رجل بسيط، لكنه حاضر بقوة في حياة من حوله. متزوج، وله أبناء يعتمدون عليه في تفاصيل يومهم، ويشتاقون إلى دفء صوته وحنان نظراته.
كان يعاني من مرض مزمن، ما يزيد من تعقيد وضعه ويضخّم قلق ذويه عليه، خاصة وسط انهيار القطاع الصحي في غزة.
في خان يونس، لم تكن الأرقام وحدها هي الجرح، بل كانت الأسماء، الوجوه، القصص.
ومحمود كان واحدًا من هذه القصص التي لم تُكتب نهايتها بعد، في كل بيت هناك صورة غائب أو دعاء لأحدهم بالعودة، لكن أسرة محمود تعيش الانتظار كعقوبة طويلة، تنام وتصحو على السؤال نفسه: هل لا زال على قيد الحياة؟ وإن كان كذلك، فهل يجد دواءه؟ هل يأكل؟ هل يتألم في صمت؟
أطفاله، الذين أجبرهم العدوان على النضوج المبكر، يفتقدون تلك اللحظات البسيطة معه: جلسته في المساء، نكاته الخفيفة، واحتضانه لهم قبل النوم.
تقول زوجته: “أقسم أني أسمع صوته كل ليلة، وكأن قلبه يحدثني من بعيد، لا أطلب إلا أن أعرف… فقط أن أعرف أين هو، وما الذي حدث له”.
رغم كل شيء، لم تتوقف العائلة عن البحث، تواصلوا مع المؤسسات المحلية، فرق الإنقاذ، منظمات حقوق الإنسان، وحتى مع الجيران والناجين من المناطق التي طالتها يد الاجتياح، لكن دون جدوى. لا اسم له في سجلات الشهداء، ولا في قوائم المصابين أو المعتقلين.
قصة محمود هي مرآة لآلاف القصص التي تراكمت تحت أنقاض العدوان، لكنها أيضًا دعوة للضمير الإنساني كي لا يغض الطرف عن المفقودين في غزة، الذين غيّبهم الدمار ولم تُروَ حكاياتهم بعد. هذه الوجوه الغائبة تستحق أن تُبحث، أن يُسأل عنها، وأن تُذكر.
وفي الوقت الذي يواصل فيه العالم تدوين الأخبار بأرقام وخرائط، هناك أطفال يكتبون رسائلهم لآبائهم الغائبين، وزوجات ينتظرن رنين هاتف لن يأتي، وأمهات يحملن صور أبنائهن في صلوات الليل.
ما زالت أسرة محمود أمان الجبور تنتظر، تنتظر بصبر الخائف، وبقوة من يؤمن أن الغائب ربما يسمع النداء، وأن باب العودة قد يُفتح فجأة، ذات فجر.